الفكرة

يؤثر الدين على حياة الجميع، سواء المتدينين أو غير المتدينين، المؤمنين أو الملحدين، حيث يمتد تاريخ الدين لأكثر من 100,000 سنة، انطلاقاً من أول دفن بشري مسجل في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومن بين عدد من التعريفات، يمكن اعتبار الدين نظاماً من الرموز التي يجد المجتمع من خلالها مكانه في العالم، بالإشارة إلى القوى والمعاني والقيم الأرضية والسماوية. وعلى غرار الثقافة، يمثل الدين تحولاً رمزياً للتجارب، بحيث خضع مفهوم الدين ويخضع للكثير من التغييرات المهمة، إلا أن تعاليمه الجوهرية، أسوة بالملتقيات الاجتماعية والأماكن المقدسة والطقوس، قد استمرت عبر الزمن. وبصرف النظر عن العالم الرئيسي والديانات الأصلية، لاحظت راغفي أن المجتمعات الأخرى تعمل بصورة مشابهة لها، مع أمثلة تشمل عالم الفن المعاصر والمجتمعات عبر الإنترنت.

انشغلت الفنانة خلال برنامج الإقامة الفنية المنزلية بكيفية وجود المجتمعات الرقمية على الإنترنت بدلاً من الأشكال التقليدية للملتقيات الاجتماعية. ما هي أوجه تشابه المساحات التي تتشكل نتيجة محاكاة هذه الملتقيات للأماكن المقدسة؟ وما هي الطقوس التي تطورت في هذه الملتقيات والأماكن؟ ما هو الغرض الذي تخدمه هذه الطقوس عبر الإنترنت؟ وبشكل أكثر تحديداً فيما يتعلق بمسألة التسلسل الهرمي ومفهوم النقاء كفضيلة، كيف تتجلى أفكار التلوث والأوساخ والقذارة على الإنترنت؟ وفي الوقت نفسه، كيف توجد مفاهيم النقاء في العالم الرقمي؟ بينما نرى المزيد والمزيد عبر شاشاتنا، كيف يمكننا التنقل بين جماليات السلطة والاضطهاد؟

 

coins-65b24e615813f.jpg (original)

 

 

التنفيذ

في كتابه "جوهر المسيحية"، يقول لودفيغ فويرباخ أن الكائنات البشرية محكومة "بدافع السعادة"، حيث يمكننا في أغلب الأحيان إشباع هذا الدافع من خلال القيام بأشياء معينة لإسعاد أنفسنا، حيث نبحث عن الطعام عند شعورنا بالجوع، وعن الدفء عند البرد، لكننا نلجأ إلى الإله فقط عندما يتملكنا الإحباط، فهنا لا يسعنا سوى تمنّي ما نريد.

يقول فويرباخ أن العنصر الديني يأتي عبر سبغ جوانب مختلفة من الطبيعة البشرية كالخير والغضب والحب والغيرة والاهتمام على الطبيعة وتسمية ذلك بـ "الإله"، ونعزو أيضاً مضامين الطبيعة نفسها إلى الإله، مثل القوة والوحدة والضرورة والحتمية والخلود واللانهاية، بحيث تتجمع هذه المضامين معاً وتتحجر وتتخذ حياة خاصة بها لتكوين الكيان الإيماني، أو الإله المبتدع، والذي يبدأ عندما يتحول إلى الموضوع أو الجهة الفاعلة في مخاطبة البشر الذين كوّنوه في المقام الأول أو يتصرف تجاههم. وعندما يصبحون فاعلين باختيارهم، تبدأ الآلهة في إخبارنا عمّا يجب علينا فعله، فتفرض علينا وصايا ومحرمات وبركات ولعنات، وتدفعنا للركوع أمام السلطات العلمانية والدينية، وتهمس بآذاننا عبارات المواساة.

خلال برنامج الإقامة الفنية المنزلية، اهتمت راغفي باستخدام الرموز غير قابلة للاستبدال (NFTs) ككيان مجرد قادر على تولي دور كيان إيماني لدينها. يعرف الـ NFT بأنه رمز غير قابل للاستبدال من بيانات مخزنة في سلسلة الكتل (بلوك تشين)، بحيث يتميز كل رمز بخصائص محددة تجعله مختلفاً عن سواه. يحدد معيار البرمجة النصية لإنشاء هذه الرموز حداً أدنى من الواجهة التي يجب على العقد الذكي تنفيذها للسماح بإنشاء هذه الرموز وامتلاكها. وعندها، نجد أنفسنا أمام حدثين رئيسيين يجب اعتمادهما: السك (Mint) وهو السماح بإنشاء الرمز، والتحويل (Transfer) وهو تحويل ملكية الرمز. وبالتالي، يحدد عقد الـ NFT الذكي من تلقاء نفسه أسس سك الرموز وتحويل ملكيتها دون أي ضمان للاستلام المتبادل.

في حال ابتداع الكيان الإيماني عن طريق إسقاط الأطراف الفاعلة البشرية، يصبح الكيان الإيماني (الإله) فاعلاً يتخذ إجراءً بخصوص مبتدعيه (البشر)، وفي النهاية، ومن خلال الصلاة والتضحية والتأمل، يتوهم الإنسان/المبتدع أننا نتحكم في القدر (الفاعل المؤمن/الإله)، وهكذا لا يتغير الإيمان فقط عندما تتغير الرغبات التي تهيمن على المجتمع، ولكن أفعال الآلهة كذلك، وأخيراً تتغير الطقوس التي ننخرط فيها للتواصل مع الآلهة. وفي سبيل توضيح هذه الطبيعة الدورية، بدأت الفنانة العمل على سلسلة من المطبوعات التي أنشئت عن طريق تمرير الزجاج المكسور من خلال المطبعة، بحيث لا تعدّ عملية تمرير الزجاج عبر المكبس عاملاً مسبباً للكسر فحسب، وإنما طريقة ضرورية لإنشاء الصورة.

ومع ذلك، من خلال وضع البشر في مكانة مبتدع الآلهة، فإننا نتجاهل الوسطاء الذين يتحدثون عن إرادة الآلهة، والمراقبين الذين يترأسون الطقوس الدينية، والثيوقراطيين الذين يحكمون مؤسساته. تستثمر راغفي في ممارستها الحالية في تحليل الدور الذي يلعبه مؤلفو الخرافات، والمترجمون، والوسطاء، والعرافون.

وتقوم بذلك من أجل موازنة نظرية "جانب الطلب" المبنية على الرغبات لدى فويرباخ مع تحليل "جانب العرض". يوضح نهج العرض المتعلق بالدين المنظم أن رغبات وأهداف الزعماء الدينيين يمكن أن تختلف في كثير من الأحيان عن رغبات أتباعهم، وأن الرغبات والاحتياجات الدينية يمكن خلقها وتحفيزها بشكل مصطنع في الآخرين على يد صنّاع الدين.

تنخرط راغفي في مثل هذا التحليل من خلال إضفاء طابع أدبي ومادي على هذا الاقتصاد الديني، وذلك عن طريق سك العملات المعدنية التي يتم توزيعها بمرور الوقت كعملة فعلية لدفع ثمن الوعود في الأماكن الحميمة بدلاً من الإجراءات الأخرى كوعد الخنصر. إن الإيمان بالوعد، على غرار الإيمان بالدين المنظم، يصبح سلعة يتم إنتاجها بشكل تعاوني من خلال التفاعلات الطقسية.

في حين أن فكرة الوعود والإسقاطات والجهات الفاعلة والتبادلات في الدين المنظم مجازية في الغالب، إلا أن الأداء والمسرح والمكافأة على ذلك فكرة ملموسة. ليس التحول لفظياً أو أسلوبياً فحسب، وإنما يمثل استمراراً لعملية استنطاق الفنانة لكيفية إنشاء المؤسسات والآلهة والرغبات الدينية.

تستخدم الإنتاجات والعروض الدينية مجموعة واسعة من المقدمات الحسية، كصدى أصوات الآلات، ورائحة البخور العصية على الاحتواء، ومذاق القرابين المقدسة، والحرارة المنتشرة من الشموع المضاءة، ومنظر العمارة المذهلة المغمورة بالضوء المتسرب من النوافذ الزجاجية الملونة، والحميمية التي يشعر بها المؤمن عندما يلمس معبوداً في مكان معين حيث قام الآلاف من قبله بلمس نفس المعبود تنفيذاً لطقوس معينة. تتطلب الهياكل اللاهوتية التقليدية مجموعات مسرحية تتضمن المذابح، والمذخرات، والأيقونات، وغيرها، لتعزيز الانطباع حول حقيقية وجود الآلهة. لا تكتفي هذه الطقوس المسرحية إلى وهم حضور القدير فحسب، ولكنها تتعامل أيضاً في مساحة من الحدية، فاصلة الفضاء المقدس للمؤسسة الدينية عن العالم الدنيوي الخارجي، في حين يضفي المسرح الديني شرعية ذاتية من خلال تأصيل أدواته في اللوازم المادية والفعلية.

 

 

11-16-23-murmurs-rb6775-1-65b24e5d92caa.jpg (original)

 

 

 

النتيجة

انتهى المشروع على ثلاثة أجزاء منفصلة.

يمثل الجزء الأول استمراراً لسك العملات الحقيقة، اتباعاً لطبعة 2022 من العملة التي تم إنتاجها خلال الإقامة هي من الفضة المصبوبة، وتحمل قيمة ووحدة وعد واحد، ومكتوب في الخلف "عليك توكلنا”، اشتقاقاً من شعار “توكلنا على الله” الموجود على جميع العملات الأمريكية. لا يوجد ذكر للموقع الفعلي أو الدولة أو الولاية التي سكت العملات المعدنية، ونجد بصمة إصبع بدلاً من هذا الموقع. يصبح الإيمان بالوعد، على غرار الإيمان بالدين المنظم، سلعة يتم إنتاجها بشكل تعاوني خلال التفاعلات الطقسية، وتصبح الثقة حرفياً عملة لهذا الإيمان، وتصبح هذه الثقة والاعتقاد متجذرة في الجسد الذي يقوم بالتبادل. صُنعت طبعة 2023 من العملة من الفضة المصبوبة ولكنها بلون ذهبي ملون، وتحمل نفس قيمة وعد واحد، ولكن كُتب عليها في الخلف “على من توكلنا”. وتظهر الصور أصابع متشابكة، في إشارة إلى إبطال الوعد المقطوع.

أما الجزء الثاني فهو عبارة عن سلسلة من 9 مطبوعات بعنوان "إرادة الإله أن تنكسر"، حيث أنشئت السلسلة من خلال تمرير لوح زجاجي بشكل متكرر عبر المطبعة، بحيث يلتقط كل فعل لاحق لتمرير الزجاج من خلال المطبعة الشقوق الناتجة عن الإجراء السابق، بينما تتبدى شقوق جديدة يلتقطها الإجراء التالي. خلال الإقامة الفنية المنزلية وبعدها، نصّبت راغفي نفسها وسيطاً في الدين الذي ابتدعته، بحيث يحتل الزجاج مكانة أحد الآلهة المادية في دينها. من المحتمل أن يكون الكسر هو الخاصية الأكثر ملائمة للزجاج، وذلك باستخدام التركيبات والأدوات المساعدة المختلفة للمادة. وخلال وساطتها، وعندما تمرر الألواح الزجاجية بصورة متلاحقة عبر المطبعة، تستبعد الفنانة أي نوايا لفرض صورة عن رغباتها واحتياجاتها الخاصة على إرادة الزجاج، بحيث "تُقرأ" خريطة الأشكال الحقيقية الناتجة عن الزجاج المكسور وتُترجم وفق مبادئ الدين، على غرار ما قد يفعله العرّاف عند قراءة الكف. وعلى نحو مماثل، تتولى الفنانة عندما تقرأ الشقوق التي يشكّلها الزجاج دور الإعلان عن صيرورة الإله، ولكنها تتجاهل تحمل المسؤولية تجاه تحيزاتها أو أفعالها.

أما في الجزء الثالث بعنوان "نافورة موصومة"، نرى منحوتة مركزية تتناثر حوله العملات الفضية المسكوكة، بحيث تتماسك جميع الأعمال الثلاثة تحت بنية متسقة من الطقوس والتركيب والعملية، وتعبر المنحوتة المركزية عن تأليه هذه الرؤية الشاملة. تأتي كلمات الوصمة والندبة والانحراف من جذر واحد في اللغة الإنجليزية، وتعني وضع نقش أو علامة بسبب العار أو العقوبة أو الخزي. يستوحى هذا التمثال المزخرف من التقاليد الحرفية والمعمارية لجميع ديانات العالم الخمس (الهندوسية والبوذية والإسلام واليهودية والمسيحية)، لإضفاء الشرعية على مبادئ دين الفنانة من خلال تأصيلها في أدوات مادية مألوفة، إلا أن الجدران التي تفصل المكان المقدس عن العالم الخارجي المدنس لا تدور بالكامل حول القاعدة، مما يشير إلى فاصل حدي مطوّل بين الفضاء النقي والمقدس مقابل الفضاء النجس والمدنس.


تنطوي جميع أديان العالم على ثنائية موجودة ودائمة، ومليئة بأضداد غير متساوية، تتمثل على وجه التحديد بالنقي مقابل النجس. قد تعبر فكرة النقاء حرفياً عن النظافة أو مجازياً عن احترام التقاليد، حيث تفرض جميع أديان العالم طقوساً معقدة للوضوء تتيح للإنسان التخلص من النجاسة. عادة ما يكون هذا الوضوء عملية مستمرة، وغالباً هذا ما تستهدفه التركيبة الدينية بحيث لا يكون بعض الأشخاص خالين من النجاسة على الإطلاق. ولكن عندما نغتسل مراراً وتكراراً لتخليص أنفسنا من النجاسة والحفاظ على التسلسل الهرمي في المجتمع، فأين تذهب النجاسة؟

تستخدم راغفي الشكل والهندسة لإنشاء هيكل مقلوب من المكونات النحتية الدينية التقليدية، مثل الحوض المستخدم للاغتسال أو مشاهدة الآخرين أثناء تنظيف أنفسهم، والبلاط الذي يحتوي على صور للنظم الدينية الأساسية، وصور الكف المفتوح وخطوطه، والمنضدة، ومصرف المياه على شكل وصمة. تعمل الصور الموجودة على البلاط كنظام تقويمي للدين تبتدعه الفنانة، في حين تنشأ النوافذ داخل "الأصابع" عن طريق دمج الحبيبات الزجاجية لإنشاء صور تربط كل دبّة صغيرة على سلاميات الأصابع بجسم سماوي.

تبنت طائفة راغفي الدينية إرشادات منظمة الصحة العالمية حول كيفية غسل اليدين باعتبارها من طقوس الوضوء الأساسية، حيث لا تختلف منظمة الصحة العالمية كمؤسسة عما يستخدمه علماء الدين في أديان العالم الخمس الكبرى، وتعد مثالاً للأنظمة التي قد تبدو منطقية للبعض وتعسفية للبعض الآخر، ولكنها مقبولة دائماً وتحظى بتأييد اجتماعي. تعمل هذه الأنظمة كامتداد للوسطاء، وبالطبع يبقى السؤال المركزي: من هم الوسطاء الذين يعلنون ويراقبون ويرأسون هذه المؤسسات؟ تتيح مكانة هؤلاء الوسطاء نوعاً من الوضوح، حيث يُنظر إلى جوانب معينة من تصريحاتهم على أنها عقائدية وجوانب أخرى على أنها "علمانية"، بحيث يصبح العلماني مؤسسياً، ويعيد تدوين ما هو "ديني".

ينحت عمل "نافورة موصومة" مساحة مقدسة داخل مساحة نجسة، فيجد المشاهد نفسه مدعواً لتتبع الروابط بين الأعمال الفنية الثلاثة واستكشاف احتمالات زيادة تعقيد فكرة النجاسة كمواقع ذات إمكانات لا حصر لها.

 

 

 

11-16-23-murmurs-rb6044-65b24e590be13.jpg (original)

 

 

 

عن الفنانة

راغفي بهاتيا
مواليد نيوديلهي، 1996

راغفي بهاتيا (مواليد 1996، نيودلهي) فنانة تشّبه التجربة الفنية بالطقوس الدينية في بحثها عما هو مقدس، وزيارة المؤسسات الدينية، وفهم الوجود. حاصلة على درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة في مجال الزجاج من كلية رود آيلاند للتصميم في عام 2019، حيث طورت ممارساتها الفنية محولة إياها إلى ما يشبه التوجه الديني، مستكشفة فلسفتها التقشفية والجمالية وجوانب التشابه بين الزجاج والجلد والماء - وهي مواد قوية وهشة في الوقت نفسه.

 

شاركت راغفي في إقامات مرموقة، مثل إقامة متحف كورنينج للزجاج وإقامة كلية أوكس- بو للفنون، وعرضت أعمالها دوليًا في متحف بلفيو للفنون، ومتحف هانتردون للفنون، ومركز كراسل للفنون وغيرها الكثير. هي مقيمة في نيودلهي، الهند.